الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين
العلم علمان
أما بعد: فإن العلم علمان علمٌ مقصود، وعلمٌ آلة وسبب لتحصيل العلم المقصود
.أما الأول فعلم القرآن والحديث وما يستخرج منهما كالفقه والعقيدة
وأما الثاني فكعلم الصرف والنحو وغيرهما، فالذي يلزم الطالب أن يصرف جميع همته إلى الاشتغال بالعلم المقصود بعد أن حصَّل لتحصيله شيئًا من علم الآلات
وقد أرشد إلى هذا المعنى العلامة قطب الدين الإزنيقي (المتوفي: 821) رحمه الله تعالى فقال: أيها الأخ الـمُسترشد والطالب الـمُستزيد: أن علم الحديث والتفسير من أهم العلوم، وأعظم المعلوم، لكن أكثر المتعلمين في زماننا لا يهتمون بتحصيله إما لعدم اعتنائهم بأمر الدين، أو لتسويفهم بتسويل الشياطين، أو لظنهم بأن أمره يسهل وعلمه يتيسر بعد تحصيل علم الآلة، بدون تحمُّل التعب في التعلُّم والقراءة، فيتغلغلون في تحصيل الفنون الآلية، ويتعمَّقون في تكميل العلوم العقلية وما يستشعرون أن ذلك فاسدٌ لأن تقديم تعلُّم العلم الدِّيني واجبٌ بعد تحصيل علم الآلة بقدر الضرورة[1]. اهـ
علم الحديث من أفضل العلوم
وقد جمعنا في رسالتنا هذه شيئا من فضائل علم الحديث الغزيرة، وما يختص أهله من المناقب العزيزة
فاعلم: أن علم الحديث من أفضل العلوم وأنفعها وأكثرها تولُّـجًا في فنونها، وأن القرآن وهو كلام ربنا عز شأنه الذي أُمرنا بتَدَبُّرِه وتفهمه نحتاج في فهمه إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]
.ولذا رُوي عن الإمامِ أبِي حَنيفةَ رحمه الله: لولا السُّنَّةُ ما فهِمَ أحَدٌ منَّا القُرآنَ[2]. اهـ
.وقالَ أيضا: إن أفضل ما عُلِّمْتُم وما تُعَلِّمُونَ الناس: السُّنَّة[3].اهـ
وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الْمِيزانُ الأَكْبَر، فَعلَيه تُعْرَضُ الأَشْيَاء، عَلَى خُلُقِهِ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الحقُّ، وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ الْبَاطِلُ[4]. اهـ
وقال العلاّمة المُحَدِّث عَبْدُ العَزِيز الدِّهْلَوي رحمه الله: لايخفى أنّ علم الحديث أشرف العلوم لا يساويه علم ما، لأنّ سائر علوم القرآن وعقائدَ الإسلام وأحكام الشّريعة وأصول الطّريقة موقوفةٌ على بَيَان الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حتى إن الأمور الكَشْفِية والعَقْلِيَّة لا يُعتمد عليها ولا يُوثق بها ما لم تكن موزونة بهذا الميزان.[5]اهـ
وأما المشتغل بهذ العلم فكفى له شرفًا أنه مُبَلِّغٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد لحقه الدعاءُ بالنَّضَارةِ في الدارين، قالَ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ»[6]
وأَنْشَد الشيخُ مُحَدِّثُ الشَّامِ بَدرُ الدِّينِ الحَسَنِيُّ لِنَفْسِه: [من البسيط]
أَهْلُ الحَدِيثِ حُمــَاةُ الدِّينِ تَابِعُهُمْ فِي مَتْجَرِ الحَقِّ والتَّحْقِيقِ قَدْ رَبِحَـا
فَازُوا بِدَعْوَةِ خَيْرِ الخَلْقِ مَا وُجِدُوا إِلَّا ونُورُ الهُدَى مِنْ وَجْهِهِمْ لُـمِحَا[7].
.وقال سفيانُ بن عُيَينة رحمه الله: مَا مِن أحدٍ يَطلبُ الحَديثَ إلَّا وفي وَجهِه نَضْرةٌ[8]. اهـ
وهمُ الطَّائفةُ المَنصورةُ الذينَ لا يَزالونَ قائِمينَ على الحقِّ، كما أخبرَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقولِه: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحقِّ مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ»[9]، قالَ عبدُ اللهِ بنُ المُباركِ، وعليٌّ بنُ المَدينيِّ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، والبُخاريُّ، وغيرهم – رحمهمُ اللهُ -: هُم أهلُ الحَديثِ[10]
وهم أولى النَّاسِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما أخبَر بقولِه: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَومَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً»[11].
قالَ ابنُ حِبَّانَ رحمه الله: في هذا الخَبرِ دليلٌ على أنَّ أولَى النَّاسِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في القيامةِ يكونُ أصحابَ الحديثِ؛ إذ ليسَ من هذهِ الأمَّة قومٌ أكثرَ صلاةً عليهِ صلى الله عليه وسلم منهُم[12]. اهـ
وقالَ أبو نعيم رحمه الله: هذه مَنقَبةٌ شريفةٌ يَختصُّ بها رُواةُ الآثارِ ونقَلتُها؛ لأنَّه لا يُعرفُ لعِصابةٍ من العلماءِ منَ الصَّلاةِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أكثرُ مما يُعرفُ لهذه العِصابةِ نَسخًا وذِكرًا[13]. اهـ
وخرج الإمام أبو يوسف القاضي رحمه الله يوماً وأصحاب الحديث على الباب، فقال: ما على وجه الأرض خيرٌ منكم، قد جئتم تسمعون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم[14].اهـ
وقالَ الإمام الشافعي رحمه الله: إذا رَأيتُ صاحبَ حديثٍ فكأَنِّي رأيتُ رجلًا من أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هو بمَنزِلَته[15]. اهـ
وهم أول الناس دخولا في الجنة بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال ابن حبان رحمه الله: أرجو أن تكون هذه الطائفة الذَّابَّةُ الكذبَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول زمرة يدخلون الجنان مع النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ أول من يدخل الجنة نبينُّا وأمَّتُه، إذ الجنة حرامٌ على الأنبياء أن يدخلوها قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمم قبل هذه الأمة، فالأولى أن يكون أقرب هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كان يَذُبُّ الكذبَ عنه في دار الدنيا، فنسأل الله عز وجل الحلول في تلك المرتبة إنه الفعَّال لما يريد[16].
وهم الذينَ يعيشونَ بينَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، لأنَّهم أحيَوا سُنَّته، ومَن أحَيا سُنَّته فقَد أحبَّهُ ومَن أحَبَّهُ كانَ معه علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّ المرءَ معَ مَن أحبَّ [17].
قيلَ لعبدِ الله بنِ المبارك رحمه الله: يا أبا عبدِ الرحمنِ! تُكثِر القُعودَ في البيتِ وحدَك؟ قالَ: ليسَ أنا وحدي، أنا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه -يعني: النَّظرَ في الكُتبِ-[18]
ولله دَرُّ القَائلِ: [من البسيط]
يَا سَادَةً عِنْدَهُـمْ لِلـمُصْطَفَى نَسَــبُ رِفْقًا بِمَنْ عِنْدَهُمْ لِلمُصْطَفَى حَسَبُ
أَهْـلُ الحَدِيثِ هُـمُ آلُ الرَّسُولِ وإِنْ لَمْ يَصْـــحَبُوا نَفْسَهُ أَنْفَاسَهُ صَحِبُوا[19]
«وفضائلُهم كالحَصَى ولا تُحصَى، جَمعَ منها الخطيبُ رحمه الله في كتابِه «شرف أصحاب الحديث
[1] «توفيقات المصابيح» مخطوط في مكتبة «الفاتح» ضمن المكتبة «السليمانية» تحت رقم: (1125)
[2] «الميزان الكبرى» لعبد الوهاب الشعراني، (1/207)
[3] «رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي» (ص27) ضمن «نماذج من رسائل الأئمة السلف وأدبهم العلمي» لعبد الفتاح أبي غدة
[4] «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (8)، للخطيب البغدادي
[5] «العجالة النافعة» (ص 10) لعبد العزيز الدهلوي
[6]أخرجه الترمذي (2657) وقال: حسن صحيح، وابن حبان (66)، قال الرامهرمزي: ويحتمل معناه وجهين: أحدهما: يكون في معنى: ألبسه الله النضرة، وهي الحسن وخلوص اللون، فيكون تقديره: جمله الله وزينه، والوجه الثاني: أن يكون في معنى: أوصله الله إلى نضرة الجنة، وهي نعمتها ونضارتها. اهـ
وقال علي القاري في «مرقاة المفاتيح» (1/488): خُصَّ مُبَلِّغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء لم يشرك فيه أحداً من الأمة ولو لم يكن في طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة سوى أن يستفيد بركة هذه الدعوة المباركة لكفى ذلك فائدة وغنماً وجعل في الدارين حظاً وقسماً. اهـ.
[7] «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر» لعبد الرزاق البيطار (ص1605).
[8] «شرف أصحاب الحديث» للخطيب البغدادي، (ص 45). و«مسألة العلو والنزول» لابن القيسراني (ص 43)
[9] أخرجه ابن ماجه (6)، وابن حبان (61)، والترمذي (2192) وقال: وهذا حديث حسن صحيح
[10] انظر «سنن الترمذي» (4/55)، و«صحيح ابن حبان» (1/261)، و«شرف أصحاب الحديث» (59-62)
[11] أخرجه الترمذي (484) وقال: هذا حديث حسن غريب
[12] «صحيح ابن حبان» (3/193)، وكذا قاله الحافظ ابن السكن في كتابه «السنن الصحاح المأثورة» كما نقله ابن الملقن في «تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج» (1/528)
[13] نقله عنه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص60)
وقال أبو اليمن ابن عساكر – كما نقله السخاوي في «فتح المغيث» (3/45) -: ليهن أهل الحديث -كثَّرهم الله- هذه البشرى فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى فإنهم أولى الناس بنبيهم وأقربهم – إن شاء الله تعالى – وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات في مجالس مذاكرتهم ودروسهم فهم – إن شاء الله تعالى – الفرقة الناجية جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم. اهـ
وقال عبد الله بن بكر الطبراني الزاهد – رحمه الله -: (أبرك العلوم وأفضلها وأكثرها نفعا في الدنيا والدين بعد كتاب الله تعالى أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لما فيها من كثرة الصلاة عليه، وإنها كالرياض والبساتين تجد فيها كل خير وبر، وفضل وذكر.
[14] انظر «شرف أصحاب الحديث» للخطيب (ص99)
[15] «مسألة العلو والنزول» لابن القيسراني (ص45)
[16] «المجروحين» لابن حبان (1/168)
[17] أخرج الترمذي (2678) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
[18] «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/535).
[19] انظر «اللطائف من دقائق المعارف في علوم الحفاظ الأعارف» لأبي موسى المديني (ص44)