HadisMakaleler

الوَشي المعلَّم بشرح حديث أنتم بأمر دنياكم أعلم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد: فقد أمرنا الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة يطول ذكرها، ولم يفرق بين أمور الدين وأمور الدنيا فالطاعة واجبة لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه سواء كان أمرا دينيا أو أمرا دنيويا

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» فقد جعله بعض النَّاس مستندَه لردِّ كثيرٍ من السُّنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا؛ كي يعملوا في أمورهم على هواهم، فأول ما يؤخذ عليهم الاعتماد المبالِغ في هذا اللفظ وفي دلالته، حيث جعلوه أساسًا ترجع النصوص إليه، وكأنَّه هو المحكم الذي تؤول إليه كلُّ نصوص القرآن والسنة، ويلزم على من يفهم هذا الحديث على عمومه أن يُجوِّز ردَّ كل حديثٍ يتعلَّق بأمور الدنيا كالمعاملات مِن بيع وشراء، وأحكام الطلاق والنكاح، وآداب الأكل، والشرب، واللباس، وعموم الأخلاق، وهذا مخالفٌ لقطعيَّات الكتاب والسنة في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم دون تفريق بين أمور الدنيا وأمور الدين.

فإن قيل: إذن فما الفهم الصحيح لهذا الحديث؟

قيل: سبيله أن يجمع طرقه وينظر في ألفاظه

فقد روي هذا الحديث عن عائشة، وطلحة، وأنس، وجابر، ورافع بن خديج رضي الله عنهم

أما حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما فأخرجه مسلم ولفظه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟» قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»[1]

وفي لفظ آخر لحديث أنس: «إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، فَإِلَيَّ»[2]

وأما حديث طلحة رضي الله عنه فأخرجه مسلم أيضا ولفظه: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟» فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا» قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الله شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»[3]

وفي لفظ آخر لحديث طلحة رضي الله عنه: «إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، إِنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئًا فَاصْنَعُوهُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللَّهُ: فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّه»[4]

وأما حديث جابر رضي الله عنه فأخرجه البزار في «مسنده» ولفظه: أَنَّ النَّبِيَّ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: «مَا أَرَى هَذَا يُغْنِي شَيْئًا»، فَتَرَكُوهَا ذَلِكَ الْعَامَ، فَشَيَّصَتْ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ فَقَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ»[5]

وأما حديث رافع رضي الله عنه فأخرجه مسلم، وابن حبان: ولفظه: قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: «مَا تَصْنَعُونَ؟» قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: «لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا» فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»[6]

وفي حديث أبي مجلز مرسلاً: دَخَلَ رَسُولُ اللَّه حَائِطًا لِلأَنْصَارِ وَهُمْ يُلَقِّحُونَ نَخْلا، فَقَالَ: وَيُغْنِي هَذَا شَيْئًا؟ فَتَرَكُوهُ، فَلَمْ تَحْمِلِ النَّخْلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «عُودُوا، فَإِنَّمَا قُلْتُ لَكُمْ، وَلا أَعْلَمُ»[7]

وقد اتضح بعد جمع الألفاظ أمران

الأول جاء التصريح في كلا اللفظين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينههم عن تلقيح النخل إلا بناء على ظنه، ووضَّح لهم ابتداء أنه لا يقول ما يقوله في ذلك اعتمادا على الوحي، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة «ما أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا»، وقال في رواية رافع «لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا»، فلو كان ما قاله وحيا لما قال «أظن» ولا «لعلكم»

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُرد أن يُخيِّر الناس في أمور الدنيا بل خيَّرهم فيما تكلم فيه على الظن من أمور الدنيا ولذا قابَل بين الوحي والظن، لا بين أمر الدنيا وأمر الآخرة

وقد علَّق الإمام الطحاوي رحمه الله على هذا الحديث بقوله: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن ما قاله من جهة الظن: فهو فيه كسائر الناس في ظنونهم وأن الذي يقوله مما لا يكون على خلاف ما يقوله: هو ما يقوله عن الله عز وجل.[8].اهـ

وبوَّب أبو عوانة رحمه الله على هذا الحديث بقوله: باب الخبر المبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم ما يكون قبل تكوينه، إلا بالوحي، وأن الظن منه في أمر الدنيا، ربما أخطأ.[9]اهـ

وبوَّب النووي رحمه الله بقوله: باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي

ثمَّ قال: قال العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأيي» أي: في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعًا يجب العمل به وليس إبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله[10]. اهـ

وقال القاضي عياض رحمه الله: وقول النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا للأنصار في النخل ليس على وجه الخبر الذى يدخله الصدق والكذب فينزَّه النبي صلى الله عليه وسلم عن الخلف فيه، وإنما كان على طريق الرأي منه؛ ولذلك قال لهم: «إنما ظننت ظنًا، وأنتم أعلم بأمر دنياكم»، وحكم الأنبياء وآراؤهم في حكم أمور الدنيا حكم غيرهم مِن اعتقاد بعض الأمور على خلاف ما هي عليه، ولا وصْم عليهم في ذلك؛ إذ هممهم متعلقة بالآخرة والملأ الأعلى وأوامر الشريعة ونواهيها وأمور الدنيا يضادُّها؛ بخلاف غيرهم من أهل الدنيا الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون[11]. اهـ

فكل من ذكرناهم من العلماء قد فهموا من الحديث التفريق بين الوحي والظن، لا أمر الدين والدنيا، أما الوحي فقد يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم على الوحي في أمور الدين والدنيا، ويجب الطاعة فيه دون تفريق، وأما الظن فقد يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين فإن أقر على اجتهاده فالطاعة واجبة على ما اجتهد، وإن لم يقر عليه فالطاعة واجبة أيضا على ما أوحي فيكون من القسم الأول، وأما ظنه في أمور الدنيا مثل هذه الحادثة فهذا هو الذي خيَّرهم في اتباعه

الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم وإن قابل بين أمور الدين وأمور الدنيا كما هو ظاهر رواية عائشة وأنس رضي الله عنهما (أنتم أعلم بأمر دنياكم) فهذا اللفظ لم يأت مبتورا بلا قصة، وإنما سيق في حادثة خاصة فلا يصح أن يجعل قاعدة عامة في كل أمور الدنيا، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم كان له من العقل والحكمة والفطنة ما يجعل الناس متحيرين في أمور السياسة وترتيب أمر الدولة وإصلاح المجتمع وغير ذلك

 وقد نقل القاضي عياض في «الشفاء» مثل هذه الحادثة فقال: حكى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب ابن المنذر: أهذا منزلٌ أنزَلَكَهُ الله ليس لنا أن نتقدَّمه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، قال: فإنه ليس بمنزل، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القُلُب فنشرب ولا يشربون، فقال «أشرتَ بالرأي» وفعل ما قاله

ثم قال القاضي: فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه؛ إذ ليس في هذا كله نقيصةٌ ولا محطةٌ وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جرَّبها وجعلها همَّه وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبيَّة، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية، ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها، لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة، وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهنا عليه في «باب معجزاته» من هذا الكتاب. اهـ

والحاصل: أنه لن يوجد أحد من أهل السنة استخرج من هذا الحديث ما فهمه المعاصرون، وما زال العلماء يصنفون كتب الحديث من السنن والجوامع ولا يفرقون بين أمور الدين وأمور الدنيا بل يحثون على اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل ما صدر عنه قولا وفعلا، والأمثلة على حرص الصحابة باتباعه صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:  إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقَرَّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومَرَقا، فيه دبَّاء وقَديدٌ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم «يتتبع الدباء من حوالي القصعة»، قال: «فلم أزل أحب الدباء من يومئذ»[12]

وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


[1] صحيح مسلم (2363)

[2] أخرجه أحمد (12544)، وابن حبان (22).

[3] «صحيح مسلم» (2361).

[4] أخرجه ابن ماجه (2470)، وأحمد (1399).

[5] «كشف الأستار» (202).

[6] «صحيح مسلم» (2362)، «صحيح ابن حبان» (23).

[7] «الخراج» ليحيى بن آدم (362).

[8] «شرح معاني الآثار» (3/48).

[9] «مستخرج أبي عوانة» (18/310).

[10] «شرح النووي على صحيح مسلم» (15/116).

[11] «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (7/335).

[12] أخرجه البخاري (2092).

İlgili Makaleler

Bir yanıt yazın

E-posta adresiniz yayınlanmayacak. Gerekli alanlar * ile işaretlenmişlerdir

Başa dön tuşu